الجمعة، 23 أكتوبر 2009

ذهاب وعودة



لا أعلم ماذا حدث لي؟ لقد سيطرت الفكرة على عقلي..لا أستطيع أن أتخلص منها وكلما حاولت إزدادت سيطرةً عليّ أكثر فأكثر..لقد خرج الأمر عن يدي ولا أستطيع أن أمسك بزمام الأمور..سهرت أفكّر طيلة الليل كيف سأفعلها؟هل سأستطيع أن أفعل أمراً كهذا؟..
أشرقت الشمس ووتخللت غرفتي آشعتها فاستيقظت بعد نومٍ دام لخمس دقائق فقط..وجدت نفسي ذاهباً إلى المطبخ،أفتح الدرج وأتناولها في يدي..نظرت إلى نصلها الحاد وبريقها اللامع أردت أن أوجهها واغرزها ثم أغمضت عيناي..
فتحت عيناي مرة أخرى ولا أعلم كم مر من الوقت فلم أكن أدرك وقتها أي شيء..
ذهبت إلى غرفتي وبينما أمُر من أمام المرآة لم ألمح أي إنعكاس لي..وقفت أمامها ودققت النظر..إنني لا أرى نفسي..أغمضت عيناي ودعكتهما ثم فتحتهما مرة اخرى ونظرت فلم أرى أي إنعكاس لي ايضا..خفق قلبي وارتعشت يداي وتجمدت في مكاني..أخذت أتساءل ما الذي حدث لي؟كيف أصبحت غير مرئي؟كيف لا أرى أي إنعكاس لي في المرآة؟هل أصبحت مصاصاً للدماء؟..
ذهبت مسرعاً إلى المطبخ وصُعِقت مما رأيت..لقد وجدت نفسي ممداً على الأرض بلا حراك والسكين منغرزة في صدري..قد تبيّن ليَ الآن لماذا لم أرى نفسي في المرآة،لقد قتلت نفسي!!


نعم قتلت نفسي،ولكن لماذا؟!..وكيف لم أشعر بالسكين تخترق صدري؟!..هل جُننت؟!..هل تملّكني الشيطان إلى هذا الحد؟..ولكنّي كنت أصلي وأطيع الله..لا..إني أنافق نفسي..كنت أفعل هذا بدون قلب خاشع،عقلي يعطي الامر وجسدي يقوم بالتنفيذ، ولكن قلبي لم يكن له أي دور..لم يشعر بما كنت أفعله..كنت أشبه بالآلة..لم أشعر أنّي تقربت من الله..هل كنت أنافق ربي؟!..عقلي لا يصدق ولساني يعجز عن الكلام..من أحسب أنّي أخدع؟!..أنا أخدع نفسي..يا لسذاجتي..والآن قتلت نفسي ولن يفيد البكاء على ما حدث..ما حدث قد حدث ولن يغيره شيء..لقد مت كافراً..كيف أصبحت نفسي ضعيفة هكذا؟!..ما الذي أوصلني إلى هذه الدرجة من الإكتئاب واليأس لكي أفكر في قتل نفسي؟!..
هل كرهت الحياة ومللت منها؟..أذْكُر أنّي كرهتها..نعم مللت منها..من أنا؟..لماذا أعيش؟..حقيقةً من كثرة ما مررت به من أحداث لا أذكر بالضبط ما الذي حدث ..


أنا متولي..توفي والداي وأنا في السابعة عشر من عمري..تكفّلت بي عمتي وأدخلتني الجامعة..إلتحقت بكلية التجارة..تخرجت منها بتقدير إمتياز..إشتغلت في إحدى الشركات الكبرى مع صديق عزيز لي..كنّا مع بعض في نفس الكلية..تخرجنا بنفس التقدير..عملنا بنفس الشركة..إننا لا نفارق بعضنا البعض..تزوجت من ليلى-كانت إحدى زميلاتي في العمل-ولي الآن ثلاثة أبناء منها..صعدت السلم خطوة خطوة..لم أتعجّل..لقد صبرت فنلت..وها أنا الآن من أصحاب الشركات.. أنا شريك في شركة"ميتشوقو"للصناعات النسيجية..هذه الشركة كانت من أنجح الشركات ..
لكن أذكر أن حياتي تغيرت تغيرا جذريا منذ هذا الحين..تغيرت للأسوأ..أصبحت متعطشاً للّهو ومبذِّرا للمال ..
لقد تزوجت سكرتيرتي..إسمها منى..كان الزواج على سنة الله ورسوله ولكنّه من أجل المتعة..ذات ليلة رجعت من العمل متأخرا،فوجدت ليلى-زوجتي الأولى-تنتظرني..في الحقيقة فاجأتني هذه الحركة..سألتني ليلى:
"
ايه اللي اخرك كدة؟انت كنت فين؟"..
تعجبت كثيرا وقلت لها:
"
ايه السؤال دا يا حبيبتي كنت في الشغل هكون كنت فين يعني!"..
أخذ العرق يتصبب من جبيني وتعرّق ظهري كثيرا،لكنّي حاولت أن أحافظ على هدوء أعصابي حتى لا اُشْعِرها بشيء..
عم الصمت المكان وهي مازالت تحدق بي فكسرت هذا الصمت وسألتها:
"
بس انتي ليه يا حبيبتي بتسألي السؤال دا؟اول مرة تسأليه يعني؟هو في حاجة حصلت؟"..
نظرت إليّ بنظرة كلها شك وقالت:
"
لا عادي اصلك وحشتني"..
وحشتها!!..هناك شيء مريب..أذكر أن آخر مرة سمعت هذه الجملة منها كانت منذ عشرين سنة..احسست أن هناك أحد ما قد اخبرها بشيء..تركتها ودخلت لأُغيّر ملابسي وهي مازالت تنظر إليّ..تصرفت كالطفل وما في عينيه من براءة ثم خلدت إلى النوم..
في اليوم التالي رجعت البيت متأخرا جدا..كنت عند منى..وجدت ليلى تنتظرني كاليوم السابق فسألتها:
"
ايه يا حبيبتي اللي مسهرك لحد دلوقتي؟"..
أجابت على سؤالي بسؤال آخر:
"
انت كنت فين؟"..
أجبتها:
"
كنت في الشغل ايه السؤال الغريب دا؟!"..
فقالت بنبرة حادة:
"
بس انا اتصلت بيك في الشغل قالولي انك مشيت"..
يا لغفلتي لقد نسيت أن أخبر موظف الاستعلامات أن يخبر من يتصل بي أنّي مشغول وفي إجتماع ولا يمكنني التحدث إلى أحد..
قلت لها في جِدِّيّة:
"
لا انا كنت في اجتماع بس هتلاقي الموظف الحمار سمع الاسم غلط فقالك على واحد تاني"..
تنظر إليّ بنظرة الشك المعتادة..ثم قالت في إنفعال وغضب:
"
في واحدة صحبتي شافتك داخل عمارة 9 في شارع النجدة"..
علمت أنها هي وليست صديقتها..فهي عندما يخبرها أحد بشيء ينتابها الشك ولكن لا تصدّقه حتى تتأكد بنفسها..إنني أعرفها جيدا..أعرفها أكثر من نفسي..
إرتبكت قليلا ثم قلت لها في ثقة:
"
اكيد واحد شبهي مش انا"..
نظرت إليّ نظرة ثاقبة تتلألأ بالدموع ولم أتحمل هذه النظرة منها..لقد عرفت أنّي أكذب عليها..
صرخت والدموع تنهار من عينيها:
"
اتجوزت عليا ليه؟انا فيا حاجة وحشة؟في حاجة كانت ناقصاك؟ليه عملت فيا كدة؟انا عملتلك ايه؟"..
في الحقيقة هي لم تقصر معي في شيء بل كنت أنا المقصر في حقها..إني أحبها..لقد تزوجت بأخرى ولكني مازلت أحبها..انّي اعتبر الأخرى نزوة..مثلها مثل اللعبة..في البداية لها متعتها بعد ذلك تَمِلّ منها وتتركها..أذرفت-ليلى-الدموع بطريقة لم أكن لأتخيلها..معها حق..لقد وهبتني كل شيء وأغلى شيء ألا وهو قلبها وأنا قد حطمته..إقتربت منها لأضُمَّها إلى صدري بين ذراعي فقامت بالإبتعاد عني..
صاحت قائلة:
"
مش عايزاك تلمسني انا مش عايزة اشوفك انا بكرهك"..
إندفعت مسرعة إلى غرفتها وأغلقت على نفسها الباب..لاحظت-أنا-وجود أبنائي..كانوا يقفون أمام باب غرفتهم وفي عينيهم الدموع وعندما وجدوني أنظر اليهم دخلوا مسرعين إلى غرفتهم وأغلقوا الباب أيضاً..لقد خسرت ثقة كل من في البيت..كنت القدوة والمثل الأعلى..أما الآن فقد خسرت زوجتي..فقدت إحترام أبنائي لي..لقد أصبحت الآن وحيدا في هذا البيت وغير مرغوب بي..
ذهبت إلى منى وأخبرتها بما حدث فبدت عليها علامات السعادة..أحسست أنها هي..هي من أخبرت ليلى عن الأمر حتى تظفر بي وحدها وتحصل على أموالي..وبالطبع قامت ليلى بمراقبتي لتتأكد فوجدت الأمر صحيحا..
نظرت إلى منى نظرة إحتقار ثم ضربت وجهها بكف يدي وطلّقتها..نزلت من شقتها مسرعا وأخذت سيارتي وتجولت بها في الطرقات لا أعلم إلي أين أنا ذاهب..
أثناء تجولي بالسيارة،جاء على بالي أعز اصدقائي..إنّه شوقي..شريكي في الشركة..إتصلت به فوجدته في إحدى البارات،ذهبت إليه وشربت معه حتى الثمالة-لم يشرب هو بمقدار ما شربت أنا-،لم أدر بنفسي..إستيقظت في الصباح ،فوجدت نفسي في بيته..تناولنا الفطور ثم ذهبنا إلى الشركة..إستمرت أيامي على هذا النحو..نذهب إلى الشركة صباحا ونثمل في البار ليلا..
في إحدى الأيام ذهبت إلى مكتبه لأسأله شيئا،وقبل أن أفتح الباب سمعته يتحدث بصوت عالٍ..لقد كانت مكالمة هاتفية مع ألدّ أعدائي..إنه هاني صاحب شركة "هناكو" لماكينات التطريز..كنا نتعامل معه فيما مضى ثم حدثت مشكلة فأوقفنا التعامل..لكن لماذا يتحدث إليه شوقي؟!..ما الذي يحدث من وراء ظهري؟..وقفت عند الباب لأستمع إلى ما يقوله شوقي..وقال شوقي التالي:
"
هاني باشا حبيب قلبي ايه اخبارك؟وايه اخبار هناكو معاك؟"
"
اهو قاعد متهبب في مكتبه ،وعملت اللي احنا اتفقنا عليه"
"
اه يا معلم البت منى قامت بالواجب خدت كام صورة ليها معاه وبعتتهملي واديتلها قرشين حلوين عمرها ماتحلم بيهم"
"
حطتهم في ظرف وكتبت ورقة فيها عنوان شقة منى وبعت الظرف لليلى وكله تمام"
"
اه جبتلك مكن التطريز اللي اتفقنا عليه ومعايا الحتة"
"
لأ آلي متخفش عيب عليك"
"
خلاص تمام هكلمك بكرة سلام"
أصابتني الصدمة وتجمدت في مكاني..عجز جسدي عن التحرك..شوقي؟!..ومع من؟!هاني؟!..كيف هذا؟!..كيف يخونني أعز أصدقائي؟!..أهكذا أصبحت الصداقة؟..ومن إشترك في الأمر معهما؟..منى؟!!..فعلاً كما تدين تُدان..كانت بالنسبة لي لعبة وكنت بالنسبة لها صفقة رابحة..ما تلك الحياة التي أعيشها؟..عقلي مشتت يعجز عن التفكير..
مسحت دموعي..إستعدت هدوئي..وطرقت الباب ثم دخلت..كان قد أنهى المكالمة..إمتثل الحزن وغيّر من نبرة صوته فجعلها حزينة جادة..وكان الحوار كالتالي:
"
هقولك خبر وحش اوي معرفش انت هتستحمله ولا لأ"
"
قول يا شوقي فيه ايه؟"
"
الديون كترت علينا والناس عايزة فلوسها ومش معانا سيولة ومفيش حاجة في ايدينا نعملها"
"
يعني قصدك ايه فلّسنا؟!"
"
للاسف ايوة دي الحقيقة وكل حاجة هتتاخد"
"
على فكرة يا شوقي انا عارف كل حاجة"
"
عارف ايه بالظبط؟!"
"
عارف حوار منى والمكن والحتة واكيد انت اللي ورا افلاس الشركة"
"
طيب بخصوص المكن والحتة فمش هتعرف تعمل حاجة لان مفيش دليل عندك على حاجة،ومنى انت خلاص طلّقتها،وانا اللي رمتها عليك،والحقيقة مراتك كانت عجباني اوي فقلت اوقع بينكوا فتسيبوا بعض وبعدين انا اتجوزها،وانا اللي خليت الشركة تفلس"..
"
مكنتش اتوقع ان انت اللي تعمل كدة"
"
لأ توقع اي حاجة بعد كدة واطلع برة بقى عايز اتكلم في التليفون"
جري الدم في عروقي وإرتفعت حرارة جسدي، نظرت إليه باحتقار وبصقت على وجهه ثم إنهلت عليه بلكمات في وجهه وبطنه حتى خرج الدم من فمه ،كاد أن يموت وأنا أضربه..تركته وذهبت..ركبت السيارة وذهبت إلى إحدى صالات القمار وكالعادة أخسر وشربت حتى الثمالة..إستمريّت على هذا النحو قرابة إسبوع..تائه ضائع فاشل خاسر ثَمِل..ذهبت إلى ليلى لأطلب منها مسامحتي على ما فعلت،ولكنها لم تستمع إليّ وطلبت مني الخروج وعدم العودة فهي لا تريد رؤية وجهي أو حتى سماع صوتي..حدث كل هذا أمام ابنائي مرة أخرى..تركت البيت وذهبت إلى إحدى الفنادق ذات الخمس نجوم وحجزت غرفة..خسرت أموالي في القمار حتى أصبحت كما نقول بالعامية على الحديدة..
أعز الأصدقاء غدر بي..ليلى تطلب مني الطلاق..أبنائي لا يريدون رؤيتي..لا يريدون شيئاً منِّي..أفلست..إذاً لماذا اعيش؟!..لم تعد لي قيمة الآن..سأقتل نفسي لأستريح من هذا العذاب..أردت أن أتوب وارجع إلى الله ولكن عقلي فيه مشكلة..لا أريد أن أرجع بسبب مرض أو حادثة أو أمر سيء حدث لي..أريد أن يكون الأمر نابع من قلبي..ما هذا الذي أفكر فيه؟!..حتى في وقت الضيق أفكر بهذه الطريقة..من أظن أنّي أعْنِد؟..لماذا أعْنِد؟.. إن باب التوبة مفتوح أمامي وانا أقوم بغلقه..حسنا سأقتل نفسي..لكن هل سيفيد قتل نفسي بشيء؟..هل في قتل نفسي راحة؟..لا..أنا أخدع نفسي فليس في قتل نفسي راحة بل عذاب..إكتئابي ويأسي جعل الفكرة تسيطر على عقلي..أصبحت نفسي ضعيفة جدا..لقد وجد الشيطان مراده فانتهز الفرصة..لقد نجح..كل شيء مهيأ..السكين موجود..لماذا أنتظر؟!..حسنا سأقوم بالتنفيذ..دخلت المطبخ..تناولت السكين من الدرج..وجهت السكين إلى صدري..أغمضت عيناي..ثم لم أدر بنفسي..ذهبت إلى عالم آخر..ولا أعلم كم مرّ عليّ من الوقت..
إستيقظت فوجدت نفسي في إحدي المستشفيات-حمدا لله كانت مستشفى خاصة-ونظرت حولي فوجدت زوجتي وأبنائي..لم أمت..مازلت حياً..نطقت الشهادتين ثم حمدت الله واستغفرته..لقد عرفت أن ليس هناك شيئا يستحق أن أقتل نفسي من أجله..إن الدنيا فانية..كلنا سنموت ولكن لا نعلم متى؟وأين؟وكيف؟..ماذا فعلت بالمال؟..لا شيء..ليس المال كل شيء..لطالما أردت أن يكون معي الكثير من المال فماذا حدث؟..أنفقته في الحرام..أنا الآن حي يرزق..إنّي بخير وعائلتي حولي..ماذا أريد أكثر من هذا؟!..لقد أعطاني الله فرصة أخرى ويجب أن اغتنمها؛فالفرصة تأتي مرة واحدة فقط..

تمت

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق